
في لقائه الأخير برئيسة الحكومة وعدد من أعضاء الفريق الاقتصادي، أعاد رئيس الجمهورية قيس سعيّد التأكيد على ثوابت خطابه السياسي: قانون المالية القادم يجب أن يُجسّد اختيارات الشعب، والتنمية يجب أن تُبنى من القاعدة إلى القمّة، والمحاسبة العادلة ضرورة تاريخية لا مفرّ منها.لكن، وبين ما يُقال في قصر قرطاج وما يُطبّق في مؤسسات الدولة، تظلّ الهوّة قائمة، خصوصًا في ظلّ تواصل العمل بنصوص قانونية ومالية لم تُحيّن منذ سنوات، بل تُستخدم – في كثير من الأحيان – كأدوات في يد دوائر نافذة للحفاظ على مصالحها، لا لخدمة الصالح العام.
منوال تنمية قائم على الإقصاء
رئيس الجمهورية أشار بوضوح إلى أن منوال التنمية “مرسوم من طرف الشعب”، ولكن المراقب للمشهد يلحظ أن هذا المنوال لا يجد صداه في النصوص التطبيقية، ولا في آليات التوزيع العادل للثروة.
فما تزال القوانين الجبائية، وقوانين التراخيص، ونُظم الدعم، تخدم – في جوهرها – شبكات اقتصادية مركّزة في العاصمة وضواحيها، ذات ارتباطات تاريخية بعائلات نافذة، بعضها حافظ على سلطته منذ ما قبل الثورة، والبعض الآخر أعاد التموضع في ظل الأنظمة المتعاقبة.
قوانين بلا مراجعة… ومحاسبة بلا أدوات
المحاسبة، كما وصفها الرئيس، “حقّ للشعب وليست تصفية حسابات”، لكن كيف تُبنى محاسبة عادلة في ظل غياب منظومة تشريعية عصرية وشفافة؟ما تزال القوانين المتعلقة بتضارب المصالح، والتهرّب الضريبي، والإثراء غير المشروع، غامضة أو غير مفعّلة، فيما لم تشهد المجلة الجزائية إصلاحات جذرية تعيد التوازن بين الدولة والمواطن، أو تضمن الحياد القضائي في قضايا الفساد السياسي.وفي الأثناء، يُحاكم صغار الموظفين والباعة المتجولين بتهم الإخلال بالنظام العام أو الإضرار بالإدارة، بينما تفلت كبار الشبكات المالية والعائلية من المحاسبة، بفضل ثغرات قانونية لم تُسدّ، وإرادة سياسية لم تُفعّل بالكامل.
قانون المالية المنتظر: اختبار حقيقي
إذا كان قانون المالية لسنة 2026 “يجب ألا يكون مجرد أرقام” – كما جاء في تصريح سعيّد – فإن الرهان الحقيقي يكمن في إعادة هيكلته ليخدم الفئات المتوسطة والضعيفة، لا أن يُكرّس الإعفاءات الجبائية الكبرى لقطاعات لا تساهم فعليًا في النمو، أو يُواصل تحميل الطبقات الهشة كلفة الإصلاح الاقتصادي.قانون مالية منبثق من إرادة شعبية، يقتضي قبل كل شيء مراجعة جوهرية للنظام الجبائي، وتطبيق آليات الجباية التصاعدية، مع تصفية النظام الموازي وتوسيع القاعدة الضريبية، بدل اللجوء إلى إجراءات تقشفية أو تحميل الأُجراء مزيدًا من الأعباء.
نحو دولة عادلة أم إعادة تدوير المنظومة؟
الخطاب السياسي للرئيس يحمل نوايا إصلاحية واضحة، لكنه يصطدم بجهاز إداري وقانوني لا يزال في غالبه وفيًا لنمط قديم من الحكم، قوامه الزبونية والولاءات العائلية والسياسية.فهل يكفي التنديد باللوبيات ومراكز النفوذ دون تحرير المؤسسات منها؟ وهل يمكن الحديث عن “تحرير وطني جديد” دون تحيين جذري لمنظومة القوانين التي تُشرعن – ضمنًا – احتكار الثروة والسلطة؟
تونس بالفعل بصدد كتابة فصل جديد من تاريخها، لكن هذا الفصل سيظل ناقصًا إذا لم يُرفَق بخطوات تشريعية ملموسة تُنهي حقبة القوانين المصمّمة لحماية المصالح الضيقة، وتُؤسس لدولة قانون ومحاسبة حقيقية، لا شعاراتية.فـ”غدًا لناظره قريب”، كما قال الرئيس، لكنه سيكون أقرب إن رافق الخطاب السياسي فعلٌ تشريعي يعيد للدولة دورها الاجتماعي، ويُخرجها من قبضة العائلات الحاكمة التي لم تغب، بل غيّرت مواقعها فقط.