
ليست غزة مجرد مساحة جغرافية محاصرة، بل مرآة تعكس بوضوح عجز العالم عن الانتصار للقيم الإنسانية. ما يحدث اليوم في خانيونس، وفي عموم قطاع غزة، لا يمكن وصفه إلا بأنه انهيار شامل لكل ما تبقى من منظومة الأخلاق الدولية. فحين يصبح قتل الأطفال والنساء جزءًا من معادلات التفاوض، ودم الأبرياء مجرد بند في نقاشات سياسية باردة، نكون قد دخلنا عصرًا جديدًا من القسوة المنظمة.
خانيونس.. حيث تنكسر الإنسانية
العدوان الإسرائيلي على خانيونس وصل إلى مستويات غير مسبوقة من الوحشية. أحياء كاملة تم تسويتها بالأرض. عائلات أُبيدت تحت أنقاض منازلها. مستشفيات خرجت عن الخدمة، وأخرى تُقصف وهي تستقبل المصابين. هل هذه حرب؟ أم جريمة مستمرة تحدث أمام كاميرات العالم دون أن يتحرك شيء؟ما يحدث في خانيونس ليس فقط معركة عسكرية، بل اختبار أخلاقي للعالم بأسره. صمت كثير من العواصم، وعجز الأمم المتحدة، وتردد المؤسسات الإنسانية، كلها شواهد على انكسار المعنى الإنساني.
مقاومة تحت الركام
ورغم كل هذا الدمار، لا تزال المقاومة الفلسطينية قادرة على أن تفاجئ الاحتلال بعمليات نوعية، تنفّذها في قلب المناطق التي توغّلت فيها القوات الإسرائيلية. كمائن، عبوات ناسفة، واشتباكات من مسافات قريبة، في مشهد يُظهر أن الكرامة لا تُقصف، وأن الاحتلال لا يستطيع اقتلاع الإرادة من تحت الأنقاض.لكن بعيدًا عن لغة البطولة، لا يمكن تجاهل الثمن الفادح. الأطفال في غزة لم يعودوا يعرفون من الحرب سوى ظلام الليل وهدير الطائرات. الجوع والمرض والبرد باتوا جزءًا من يوميات الناس، فيما لا تزال “التهدئة” تُناقَش في الغرف المغلقة، وكأن الوقت لا يُقاس بعدد القتلى، بل بتكتيك تفاوضي.
أين العالم؟
من الصعب فهم كيف يمكن للعالم أن يرى كل هذا الخراب ثم يطالب “الطرفين بضبط النفس”. الطرف الأول مدجج بأحدث الأسلحة، يقتل من الجو والبحر والبر. والطرف الثاني شعب محاصر، يبحث عن مأوى، عن ماء، عن حليب للأطفال، عن الحياة.إن الدم في غزة لم يعد فقط نتيجة للعدوان، بل تحوّل إلى شاهد على تواطؤ صامت، أو عجز متعمد. وإذا استمر العالم في النظر إلى غزة كملف أمني أو ورقة ضغط في ملفات إقليمية، فإنه بذلك يساهم في جريمة تُرتكب على مراحل.
الرسالة الأخيرة.. من تحت الركام
من بين الأنقاض، ومن خيم اللجوء، ومن نداءات الاستغاثة التي لم تجد أذنًا صاغية، يخرج صوت غزة ليقول للعالم: لسنا أرقامًا في نشرات الأخبار. نحن بشر. نحن عائلات، وأطفال، ومسنّون، نحلم بالحياة لا الموت. نريد الأمن لا الحرب. نبحث عن العدالة، لا عن ثأر.في النهاية، إن الدم لا يجب أن يكون ورقة تفاوض. بل يجب أن يكون خطًا أحمر لا يُمسّ. وكلما تجاهل العالم هذا الخط، كلما اقتربنا أكثر من هاوية لا يعود بعدها للإنسانية معنى.