عندما تنسى البنوك العمومية في تونس من تخدم

في زمن الشكوك الاقتصادية والتململ الاجتماعي، يعود سؤال جوهري ليُطرح بإلحاح: هل البنوك في تونس، وخاصة العمومية منها، في خدمة الشعب، أم أنها تحوّلت إلى عبءٍ على كاهله؟
لسنوات طويلة، رُوّج لفكرة أن البنوك، وبالذات العمومية، هي أدوات مالية وطنية وجب أن تقود التنمية، تفتح آفاق الاستثمار، وتُرافق الفئات المتوسطة والمهمشة في صعودها الاقتصادي. غير أن الواقع اليوم يرسم صورة مختلفة، إن لم نقل صادمة.
تُظهر تقارير رسمية صدرت سنة 2024 أن أقل من 14% من القروض البنكية العمومية موجهة للقطاعات ذات المصلحة العامة: فلاحة، سكن، مرافق عمومية. أما البقية، فغالبيتها تصب في قنوات الاستهلاك السريع أو المضاربة غير المنتجة، مما يزيد من هشاشة الاقتصاد التونسي ويُغذي نماذج العيش بالدَّين، لا بالإنتاج.
وفي الأثناء، يستنزف المواطن العادي تحت وطأة فوائد بنكية مرتفعة، ورسوم غير شفافة، وشروط تعجيزية لنيل قرض صغير أو بعث مشروع. أما المؤسسات الصغرى والمبادرات الجهوية، فتكاد تُترك لمصيرها في مواجهة السوق دون تمويل أو مواكبة.
المفارقة أن البنوك العمومية، التي تموّلها الدولة وتُدار نظريًا باسم الشعب، تُدار فعليًا بمنطق تجاري صارم، كأنها في بورصة نيويورك، لا في قلب مجتمع يحتاج الدعم والمرافقة. والنتيجة؟ ارتفاع في نسب التداين العائلي، وتقلّص فرص الارتقاء الاجتماعي، ومزيد من التفاوت الجهوي والمجتمعي.
ما الذي يمنع هذه المؤسسات من إعادة بوصلتها نحو خدمة الاقتصاد الحقيقي؟ أين سلطة الدولة على مؤسسات تمثلها؟ أين البنك المركزي من رقابة جدية على أسعار الفائدة وطرق المعاملة مع الحرفاء؟ بل أكثر من ذلك: من يحاسب هذه البنوك على نتائجها؟ ومن يقيّم مدى التزامها بدورها الوطني؟
لا يمكن لبلاد تمرّ بأزمة مالية مزمنة أن تترك قطاعها البنكي يتحرّك بمعزل عن الأولويات الوطنية. ولا يُعقل أن تستمر البنوك، خاصة العمومية، في تمويل الاستهلاك على حساب الإنتاج، والربح السريع على حساب التنمية المستدامة.
المطلوب ليس شيطنة البنوك، بل مساءلتها. المطلوب ليس تكسير القطاع المالي، بل إصلاحه من الداخل. أما ترك الأمور على حالها، فهو خيار يُهدّد الاستقرار المالي والاجتماعي في آنٍ واحد.