
أثارت صورة لطفلة خلال حفل الفنان الشامي في بنزرت موجة من التفاعل والجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس لأنها قامت بسلوك شاذ أو غير مألوف، بل فقط لأنها بدت غارقة في مشاعرها، منفعلة بلحظة وجدانية صامتة، ربما من التأثر، الحزن، أو التأمل العميق. غير أن هذا التفاعل الداخلي – الإنساني – قوبل بهجومٍ ساخر وانتقادات مستهجنة من البعض، وصفوا حالتها بـ”الانفعال المفرط” أو “الدرامي”، متناسين أنها طفلة… وأنّ المشاعر ليست جريمة.
مشاعر خارج القالب… فتّشت فيها العيون
الطفلة لم تكن ترقص أو تضحك أو تصرخ. لم تكن جزءًا من الصخب العام الذي اعتدنا عليه في الحفلات، بل كانت صامتة، مركّزة، متأثرة. نظرة عميقة، يد على القلب، وتعبير على وجهها لا يحتاج شرحًا. تلك اللحظة التي يفترض أن تُحتَرم بوصفها حالة شعورية خاصة، تحوّلت إلى “قضية رأي عام” لدى بعض المعلقين، وكأن المجتمع بات يهاب كل ما هو مختلف، عميق، أو حقيقي.
حين نمارس الرقابة على الوجدان
ما حدث مع هذه الطفلة يعكس أزمة ثقافية أكثر مما هو “رد فعل فردي”. لقد أصبحنا، كمجتمع، نُخضِع المشاعر الفردية لرقابة قاسية، ونسارع إلى إصدار الأحكام على كل من يعبّر بطريقة لا تشبهنا. وكأننا لم نعد نحتمل المشاعر الصادقة، إلا إذا جاءت ضمن قوالب جاهزة: ضحك مفتعل، تصفيق مبالغ فيه، تفاعل “تجاري” مع الحدث.لكن ماذا عن التفاعل الهادئ؟ ماذا عن الدمع؟ عن الذهول؟ عن الحزن الجميل؟ هل أصبحت هذه المشاعر “محرّمة” على الأطفال؟
الطفلة التي ذكّرتنا بنقصنا
صورة الطفلة – بكل ما تحمله من صدق وشفافية – كانت مرآة صادمة للكثيرين. لقد ذكّرتهم بما فقدوه: القدرة على الإحساس، على العيش بتلقائية، على التفاعل دون خوف من أحكام الآخرين. ولهذا تحديدًا كانت هدفًا سهلًا للتنمّر. لأن الصدق في زمن الاستعراض يربك، ولأن الصمت العاطفي وسط الضجيج يُزعج.ما يستحق الإدانة فعلًاما يستحق التنديد ليس تعبير الطفلة، بل ما كُتب عنها. التنمّر على مشاعرها لا يعكس فقط خللًا في الوعي الجمعي، بل يكشف عن جفاف عاطفي مقلق. فإذا كنا نعجز عن تقبّل دمعة طفلة، فكيف سندّعي الدفاع عن الطفولة؟ وإذا كنا نحاسب طفلًا على لحظة صمت وتأثّر، فماذا تبقّى لنا من الإنسانية؟
اتركوا للأطفال هامشًا للشعور، دعوهم يعيشون لحظاتهم بصدق. فربما تعلّمنا منهم شيئًا عن أنفسنا… وعن ما فقدناه دون أن ندري.